Nouvelles
في السنوات الأخيرة بدأت نواقيس الخطر تدق محذرة من الاستعمال المفرط للوسائط الرقمية وخطرها المحدق بالأجيال القادمة. سنة 2018 منعت فرنسا الأطفال دون سن الخامسة عشر من استخدام الهواتف النقالة في المدارس. وفق مقال لمجلة علم النفس العيادي « Clinical Psychological Science,» لسنة 2017، واعتمادا على دراسة شملت نصف مليون أمريكي على مدى 5 سنوات، فإن المراهقين الذين يقضون وقتا أكبر عبر الوسائط الإلكترونية الحديثة (وسائل التواصل الاجتماعي، والهواتف الذكية،..) معرضون أكثر من غيرهم لمشاكل ذهنية، وفي المقابل فإن المراهقين الذين يقضون أوقاتا طويلة في نشاطات غير مرتبطة بالشاشة (التفاعل الشخصي، التمارين الرياضية، استعمال الوسائط الورقية، والقيام بالواجبات الدينية) هم أقل عرضة لهذه الأخطار.
في إطار الرؤية المجتمعية التي نادينا بها في المقال السابق المعنون «الأبوة في ظل الحجر الصحي»، واستكمالا لهذا العمل بتفصيل البرنامج المقترح، نعالج في هذا الموضوع قضية أصبحت تؤرق الآباء والأمهات بشكل كبير، ألا وهي الاستعمال المفرط للوسائط الرقمية من طرف الأطفال في سنيهم الأولى وذلك في الظروف العادية فمابلك في ظل الحجر الصحي وهم في البيوت على مدار اليوم والليلة. هل ندع العالم الرقمي يفسد أهم ميزة لهذا الحجر وهي عودة دفء البيت والحياة الأسرية. إنني أنادي إلى «المرافقة عبر استعمال الوسائط الرقمية» عوضا عن «التحذير من مخاطر العالم الرقمي». وهذان المفهومان مختلفان جوهريا ذلك أن الأول يتعامل مع العالم الرقمي كواقع يبحث عن السبل المثلى لاستغلاله بينما ترى المقاربة الثانية هذا العالم كمصدر خوف وجب منعه البتة، وأنى لنا ذلك، فيكون العلاج حينئذ استأصاليا يحاول انتزاع الأطفال من عصرهم ولن تكون المعركة ،في نظرنا على الأقل، إلا خاسرة من بدايتها.
ميـــزات العالــــم الرقمـــي
من الواجب التسليم بأن تعميم استخدام الأنترنت والتكنولوجيات الحديثة يعبر عن تطور معتبر لمجتمعاتنا الحديثة. هذا التطور وفر الوصول الحر والمجاني للمعرفة. ما خلق ثقافة جديدة من تبادل المعارف والخبرات تجاوزت كل الحدود والثقافات. ويشكل أطفالنا فاعلا أساسيا في هذا التطور الحديث والذي يجوب العالم بأسره جاعلا منه قرية صغيرة.
فالأطفال يشاركون في تطوير هذا العالم الرقمي ونموه لالتحاقهم به باكرا، ما يبهرنا نتيجة استيعابهم وتحكمهم في الوسائل الرقمية, بل وتطويرهم قدرات في هذا الميدان تفوق بكثير آباءهم وأمهاتهم. كما يكتشفون مختلف التطبيقات وخصائصها ويقومون بضبط الإعدادات بتحكم كبير مبهر للأجيال التي سبقهم.
لكن من المشروع التساؤل عما إذا كان وجود الوسائل الرقمية الحديثة كالتلفزة والأنترنت والهواتف النقالة قد غير من الممارسة اليومية للأبوة الحديثة؟ وهل يصطدم العالم الأفتراضي كلية مع العالم الواقعي؟ وهل يشكل العالم الرقمي أخطارا أكبر -مقارنة بالعالم الواقعي- على أبناءنا؟.
فهذا المحيط الجديد يشكل أزمة في التحكم بالنسبة لهذا الجيل من أبناءنا، لما يحمله من معان تحررية لدرجة الانفلات ولحظية لدرجة غياب الصبر والتأني، ويهدد بفقدان الرصيد الكبير من قواعد التربية التقليدية الموروثة عن أسلافنا. فنحن نطرح توجها يرى أن المحيط المعلوماتي الجديد الذي ينمو فيه أبناؤنا، إذا رافقه اهتمام كاف بالتحديات المستجدة، لن يغير جذريا من الدور الجوهري للأبوين في التربية.
دور الآباء
كونك أبا أو أما، هو تحمل مسؤولية فريدة اتجاه المجتمع بأكمله، فهو دور يرمي إلى بناء علاقة ثقة دون تسلط، وبث روح المرح والسعادة في الناشئة. بالنسبة لعدد من الآباء فإن عدم التحكم في التكنولوجيات الرقمية، يولد تعاملين على طرفي نقيض، فالكثير منهم يعتقد أنه الشخص الذي يعرف، يشرح يقرر ويتحكم في كل شيء، فكونه غير ملم بكل ما يحويه العالم الرقمي، يمثل له مصدر تخوف وانزعاج من عدم القيام بدور الأبوة كما يجب فيحاول منع استعمال الوسائل التكنولوجية بصورة كلية. بينما نجد قسما آخر يرى أن الأطفال يجب أن يعيشوا عصرهم دون قيود أو ضوابط فيلقي الحبل على الغارب دون ضبط ولا مراقبة بينما يمكننا إجمال دور الآباء في النقاط التالية:
• ضمان الصحة النفسية والجسمية للأبناء.
• مساعدتهم على النمو وفقا لسنهم ونمطهم وعصرهم.
• مرافقتهم في اكتشافاتهم ومنحهم الثقة والاستقلالية، وذلك بحسن مخاطبتهم وسماعهم.
• إعطاء إجابات لتساؤلاتهم مع دفعهم للسبل المثلى للبحث عن الإجابات بأنفسهم.
• حمايتهم وتعليمهم الدفاع عن أنفسم بمعرفة الأخطار وتجنبها، في حذر دون جبن.
• تعليمهم التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الكذب والصدق، بين الأماني واليقين.
• وضع ممنوعات وعقابهم عند المخالفات مع توضيح هذا وذاك.
• تعليمهم احترام أنفسهم والآخرين.
البـــرنامـــج الـمقتـــــرح
في المحيط التقليدي نقدم لأطفالنا ألعابا، ترفيها، غذاءا، وشروحا تتناسب ومستواهم، فعلينا السير بنفس الوتيرة في العالم الرقمي (أنترنت، ألعاب فيديو، هواتف محمولة، تلفاز، ….). في كل الأعمار وجميع الميادين، هناك مبدءان أساسيان هما التحكم والمرافقة. فالتحكم، لأن التوازن مطلوب بين مختلف الأنشطة التي يمارسها الأطفال: رياضة، مدرسة، أسرة، أصدقاء، غذاء، نوم،…..، وميديا كذلك.
تقليل وقـــت الجلـــوس وزيــــادة وقــت اللـعـــب
تنصح منظمة الصحة العالمية في توجيهات صدرت مطلع العام 2019 بقضاء الأطفال دون سن الخامسة أوقاتا أطول في اللعب وضرورة تقليص أوقات الجلوس أما الشاشات أو في المقاعد بصفة عامة وذلك لتوفير تنشئة صحية لهم. وتشمل التوصيات أن يقضي الأطفال بين العام الأول والخامس 180 دقيقة يوميا على الأقل في أنشطة بدنية مختلفة، وأن لا تقيد حركتهم لأكثر من ساعة في المرة الواحدة. ولم تشمل النصائح تخصيص أوقات لمشاهدة التلفاز. فنقترح على الأولياء أن لا تتجاوز مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة لحلقة واحدة في الفترة الصباحية وأخرى في الفترة المسائية، حتى يتنسنى لهم إحداث التوازن مع النشاطات البدنية. ولهذا يمكن للأولياء:
1. وضع الوسائط الرقمية (الحاسوب، أجهزة اللعب، التلفاز وغيرها ) في مكان عام بالبيت حتى لا يبقى الطفل منعزلا في أحضان الشاشة (مع مراعاة هامش مقبول من الحرية والخصوصية).
2. فتح حوارات دورية مع الطفل حول تصوره لاكتشافاته الرقمية (الأنترنت، الهاتف، التلفاز، ألعاب الفيديو،…). والتأكيد على أن القيم الاجتماعية مهمة في حياتهم الرقمية على قد المساواة مع أهميتها في العالم الواقعي.
3. إشراك أسر أخرى في الآراء، الشكوك والانشغالات حول استعمال الأبناء للوسائل الرقمية (كدورات تكوينية عبر جمعيات، …) وحتى أخذ ٍرأي مختصين.
4. بالموازات وجب اقترح نشاطات متنوعة لتحقيق التوازن، حفظ شيء من القرآن، ممارسة رياضة، القيام بأشغال منزلية كالتصليحات والدهن للأطفال، والخياطة والطبخ للإناث، وأشغال كتنظيف وترتيب البيت للجنسين.
5. تحديد برنامج يومي أو سبوعي حسب سن الطفل وانشغالاته (صلاة، امتحانات، واجبات مدرسية، واجبات أسرية،..). ومن ثم وضع سجل متابعة للوسائط الرقمية لمدة أسبوع، الوقت (الذي تقضيه مع التلفاز، الأنترنت، الهاتف، …) وليصنع الآباء مثالا لأبنائهم على التحكم في الوقت. فبدل منع استعمال الأنترنت أو التلفاز، نضع مجموعة قواعد: الزمن الأقصى المسموح به يوميا، نوع النشاط المسموح (لعب، بحث مدرسي، ….)، التوقف عن استعمال الأنترنت بمجرد سماع الآذان مثلا، عدم استعمال الأنترنت قبل إنجاز الواجبات المدرسية والأسرية.
مثال لبرنامج أسبوعي للطفل
1. إرساء ثقافة الصورة والميديا
يحمل المحتوى الإعلامي تمثيلا للعالم والعلاقات الإنسانية لغرض نفعي أو ترفيهي. فهو مصمم لإثارة الانتباه والتأثير في المتلقين برسائل قد تكون غير مباشرة. بين سن 6 و8 سنوات يبدأ الطفل التفريق بين الحقيقة والخيال وقبل هذا السن يعيش الأطفال الانفعالات الناجمة عن الشاشة و العالم الحقيقي بنوع من التداخل والانبهار. ليتمكن الأطفال من معرفة الحقائق، على الآباء مساعدتهم مبكرا لامتلاك إدراك صحيح لطبيعة المحيط الإلكتروني الذي يعيشون فيه وتوعيتهم بمن يتحكم به. فمن المهم أن يكون للطفل اطلاع على مبادئ الصناعة الإعلامية (تصوير، قص، تركيب، إثارة،… ) وذلك بتعلم فن «الديكور»، وتشجيع الأطفال على تركيب صور بأنفسهم، تخيل قصص،… و إعطاءها صياغة وشكلا على وسائط تقليدية أو رقمية (رسم متكامل، وضع سيناريو مسرحي، …). ففي السن الباكر وجب تنبيه الأطفال إلى الكم الهائل من الخيال والخدع البصرية التي يحويها الإعلام ما يمكنهم من التعامل مع العالم الرقمي على أنه غير واقعي بالمجمل.
2. تعليم الاحترام والحذر عبر الأنترنت
أساس الثورة الرقمية أن الفرد امتلك قدرة وسرعة وحرية غير مسبوقة في التاريخ على تجميع ومعالجة وبث المعلومات والمعارف، ما أوجب على كل فرد منا التساؤل حول ممارسة هذه السلطة الجديدة والمسؤوليات الفردية المترتبة على ذلك. ففي الشبكة العنكبوتية كما في الواقع «أحب لأخيك ما تحب لنفسك» و«احترم تحترم». فعلى الأولياء تعليم الناشئة استخدام المعايير الأخلاقية والتربوية كالإحرام والعيش المتبادل في العالم الرقمي كما في الواقع. ومن هذا ان نعلمهم التمييز بين ما هو خاص (رسائل إلكترونية، رسائل هاتف خاصة بشخص معين، …) وما هو عام التداول (معلومات للنشر العام، … ).
تعتبر شبكات التواصل الاجتماعي وسائل لاكتشاف العالم، في ظل هذا الانبهار يعتقد الطفل أنه يتحكم في كل شيء ويستطيع القيام بأي شيء، وهكذا يرتكب أخطاء من قبيل: الإجابة على جميع طلبات الصداقة، الثقة في كل ما يقال أو يكتب (سمعت في الأنترنت كذا وكذا، …)، إعطاء معلوماته الشخصية، الإضرار بالآخرين ، على الطفل أن يعي أن كتاباته، وكلماته، وأفعاله لديها تبعات تماما كما في الحالم المحسوس (كذب، استفزاز، خداع، …). فالخصوصية مهمة لحماية معطياتهم الشخصية ومن يحيطون بهم، لأن ما يقولونه ويعلنونه قد تكون معلومات حساسة يمكن استخدامها من طرف مجهولين ضدهم (سرقة، خداع، ابتزاز، …) مثل عنوان البيت، أوقات الدخول والخروج، أرقام بطاقات الإئتمان، صور شخصية أو عائلية ….، فعلينا تعليمهم نوع المعلومات التي يمكنهم التصريح بها عبر الأنترنت مثلا: مرافقتهم في تعبئة استمارة إنشاء بريد إلكتروني وتعليمهم التمييز بين المعلومات الإجبارية والاختيارية. والقاعدة العامة في الأنترنت أن تعطي أقل قدر ممكن وضروري من المعلومات مهما كانت الجهة التي تتعامل معها.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- في «تحفة المودود بأحكام المولود» ص 350، في معرض حديثه عن تربية الطفل «وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب، فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يعطي. ويعوده البذل والإعطاء، وإذا أراد الولي أن يعطي شيئا أعطاه إياه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء». فنحن نعلم الأطفال عدم قبول شيء من الغرباء، عدم السير مع من لا يعرفونه…. هذه التوجيهات تنطبق أيضا على العالم الرقمي (بريد إلكتروني، برامج المحادثة، شبكات التواصل الاجتماعي، …) فالأنترنت قد تحوي أخطارا (شبكات تجنيد إرهابية، استغلال جنسي، تجارة ممنوعات، نشر فكر ضال، …) فإدراك الطفل لعالمه المحيط ضروري في الأنترنت كما في الواقع.. وننصح هنا بـما يلي:
1. تحذير الأطفال من الثقة في الأشخاص المجهولين.
2. تعليمهم عدم الإجابة عن أسئلة حول الجسم (الطول، الوزن، لون العينين، السن،….).
3. تعليمهم الإبلاغ عن كل ما يثير شكوكهم عبر الأنترنت.
4. تحذيرهم من إعطاء معلومات للغرباء وعبر الأنترنت بصفة عامة من قبيل: الإسم الكامل، العنوان، رقم الهاتف، وقت الخروج من المدرسة أو وقت عودة الأبوين، الصور الخاصة أياً كانت.
5. عدم الذهاب بمفرهم لموعد مع شخص غير معروف.
3. استخدام وسائل الحماية المتاحة
على الأولياء أن يكونوا في مستوى المسؤولية الواقعة عليهم، وأن كونوا قادرين على استعمال البرامج المتاحة للمراقبة الأبوية للشبكة العنكبوتية، وهي متاحة بشكل مجاني غالبا، فقط تحتاج إلى ضبط بعض الإعدادات لتتلاءم مع سن الطفل وبرنامجه، كما أن أنظمة التشغيل تتيح إعدادات مهمة للمراقبة الأبوية تضمن حدا أدنى من ضبط الوقت ومراقبة المحتوى. كما يجب الإلمام بأساسيات التبليغ والحظر فأغلب منصات التواصل الاجتماعي توفر طرقا بسيطة للتبليغ عن المضايقات التي يتعرض لها الأفراد، والأطفال بصفة خاصة. كما تسمح بحظر أشخاص معينين أو نوع معين من المحتوى، كالعنف والجنس مثلا، وبهذا يمكن تكييف استعمال الوسائط حسب سن الطفل.
خاتمة
المعلومات المقدمة في هذا المقال مستقاة من مصادر شتى وقد تم تحري الدقة في نقل المعلومات قدر المستطاع. أما الأفكار والبرامج وطريقة عرضها فهي اجتهاد شخصي، ومن هنا انتظر من الآباء والمعلمين والمنشغلين بالتربية والتعليم خصوصا المساهمة بملاحظاتهم وآراءهم ونقدهم للأفكار المطروحة في هذا الموضوع لإثرائها وتعديلها والوصول بها إلى الشكل الذي يمكن تطبيقه ليساهم في حماية وتربية النشء على أمثل الأخلاق والقيم.
أ. هشام رحاب *
* أستاذ جامعي
Source : https://elbassair.org/9282/
الخميس 21 رمضان 1441ﻫ 14-5-2020م